الأمازيغية الأطلس البليدي.. صمود وتحدي

الأطلس البليدي واحدة من القلاع التي تقاوم العوامل الطبيعية والبشرية التي تعمل على زوال الشخصية الأمازيغية للإنسان الجزائري وزوال عاداته وتقاليده

الأطلس البليدي، المعروف بمحطته السياحية، شريعة، هي منطقة جبلية تمتد بين ولايات المدية والبليدة والبويرة، وتمت مراعاة الحدود بين القبائل بشكل دقيق في التقسيم الاداري، كما يوضحه عثمان محمد، إبن المنطقة ل”ليبرتي”. ف”لن تجد قرية تابعة لتراب البليدة مثلا وهي تنتمي سوسيولوجيا لقبيلة تقع في تراب المدية أو العكس” يقول عثمان الذي وافق على تخصيص يوم كامل من وقته لمرافقتنا بين ربوات بلديات بوقرة والأربعاء وحمام ملوان

ولا توجد شريعة واحدة في الأطلس البليدي، بل هناك “شريعات” عديدة، أو “شريعاث” بالأمازيغية، لأن تسمية شريعة ليست مشتقة من المعاني العربية التي يمكن أن نفهمها من هذه الكلمة. بل هي “شريعاث” التي تعني جمع الممرات  ذات الامتداد الواسع والمفتوحة الأفق من الجانبين، حيث تمكنك “شريعاث” الأطلس البليدي من مشاهدة جبال جرجرة من الجهة الشرقية وتشاهد العاصمة ومتيجة من الجهة الشمالية والغربية والمرتفعات الممتدة إلى غاية البويرة والمدية جنوبا

عند بني موسى وبني ميسرا والملوانيين

محمد عثمان، مهندس فلاحي، إبن المنطقة وبالضبط من بني أمحمد، أعالي بلدية أولاد سلامة. وتنتمي قبيلة بني أمحمد لكونفدرالية بني موسى، كما يشرح محمد الشغوف لاكتشاف تاريخ منطقته. فهو شاب لا يتحدث اللغة الأمازيغية، مثله مثل أغلب شباب الأطلس البليدي، لكن الأسماء التي يتعامل معها في المنطقة كلها أمازيغية

“أشرب من عين تحمل إسم أمازيغي وآكل خضر وفواكه ونباتات تحمل أسماء أمازيغية، أقطفها من حقول تحمل أسماء أمازيغية وأسكن بيتا يقع في مكان يحمل إسم أمازيغي…” يقول محمد بحسرة ويوجه نداء بالمناسبة للسلطات حتى تتكفل بإعادة إحياء اللغة الأمازيغية عند سكان الأطلس البليدي. فحسبه “لا يمكن لأي مجهود فردي أو حتى جمعوي أن يعيد إحياء هذه اللغة إن لم توجد سياسة دولة موجهة لهذا الغرض

موعدنا الأول مع محمد بمقر بلدية بوقرة، وهي بلدة أسسها المعمرون قبل أن يستقر فيها أهل الأطلس البليدي بعد الاستقلال. فمداشر بني موسى وبني ميسرا والملوانيين… الواقعة أعالي “روفيغو” والأربعاء وأولاد سلامة… أصبحت خالية من السكان وأبناءها إستقروا كلهم في مدن متيجة لأسباب مختلفة، منها الظروف الاجتماعية القاهرة التي جعلت سكان الريف الجزائري يتنقلون بقوة إلى المدن بعد الاستقلال. لكن الأطلس البليدي عرف هجرة أخرى أكثر قوة وأكثر تدميرا لشخصية الانسان فيه، هي هجرة التسعينيات هروبا من الارهاب الأعمى. وقبل “روفيغو” في عهد الاستعمار، كانت بوقرة سوقا أسبوعية لقبيلة بني عزون التابعة لكونفدرالية بني مسيرة المقابلة لكونفدرالية بني موسى التي يقع سوقها في مقر بلدية الأربعاء

السبت 09 جانفي 2021، حدود الساعة التاسعة صباحا. نلتقي مع محمد لأول مرة إذن لنتجه مباشرة نحو مقطع لزرق، أين يلتقي وادي الآخرة ووادي يما حليمة ووادي الشريعة مشكلين وادي حمام ملوان في الأسفل بمياهه الزرقاء العذبة. وموعدنا في مقطع الأزرق مع عمي أعمر أملال، أحد سكان قرية إيسبغان المهجورة كلية. عمي أعمر أملال من القلائل الذين ما زالوا يتحدثون الأمازيغية بطلاقة في المنطقة. يتذكر أيام اندلاع الثورة التحريرية وهو طفل صغير ويقول أن “مؤتمر الصومام كان مقررا أن ينعقد عندنا”… وأيامها جيل عمي أعمر كانوا يتقنون الأمازيغية، لكن اليوم “أغلب هؤلاء ماتوا والشباب يستحون من تعلم الأمازيغية” يضيف محدثنا

عمي أعمر أملال يعود إلى مسقط رأسه في الأطلس البليدي

وجهتنا الآن نحو قرية إيسبغان في قمة تفوق علوها ال1000 متر، حيث مقبرة الطلبة ال23 الذين إستشهدوا في معركة مع العدو يوم 22 فيفري 1957. المقبرة تحاذيها ساحة واسعة تغطيها الأشجار وتجعلك في غنى عن أي جهاز تبريد أو تكييف للهواء وأنت تقيم في المنطقة أو تزورها. ومن هذه الأشجار، شجرة الأرز الأطلسي التي يقول عنها محمد عثمان “لن تجدها في أقل من علو 1000 متر

هذا المكان الاستراتيجي لسكان إيسباغن يحتوي أيضا على مسجد عتيق إختفت آثاره. وتم تعويضه بمسجد شيد بعد الاستقلال بنفس الهندسة التي تستعملها القرى الأمازيغية في تشييد المساجد، أي نفس بناية بالقرميد لا تختلف عن بيوت السكان في الشكل ولا في العلو. المسجد هو عبارة عن مدرسة قرآنية تستقبل عشرات الأطفال من القدم، وإستمر المسجد الجديد في أداء المهمة إلى أن جاءت الجماعات الارهابية وقامت بحرق مسكن الامام. ومنذ هذه الحادثة، يقول عمي أعمر، لم يبق أي ساكن في إيسباغن ولا في القرى المجاورة التي كانت تحصي حوالي 5000 نسمة عند الاستقلال وحوالي 2000 نسمة إلى غاية تسعينيات القرن الماضي

عمي أعمر في طريقه لإتمام بناء بيت من غرفة واحدة يسمح له بالتنقل إلى مسقط رأسه وإعادة بعث حديقته الصغيرة والاعتناء بخلايا النحل التي يقوم بتربيتها في ملكيته أسفل مقبرة الشهداء ببضع كيلومترات. أما بيته العتيق  فآثاره لا تظهر وسط الغابة بعدما قنبلته طائرة الجيش الوطني الشعبي أثناء إحدى عمليات التمشيط وإقتفاء آثار الارهابيين المسيطرين على المشهد في الأطلس البليدي طيلة عقد من الزمن تقريباقصة عمي أعمر تشبه إلى حد بعيد قصة رابح حميدوش، إبن قرية بني بوبكر في بلدية العيساوية، إحدى بلديات الأطلس البليدي الواقعة في تراب ولاية المدية. رابح حضر الارهابيون إلى المنزل القديم الذي تقيم فيه عائلته منذ بداية الاستقلال وقبضوا على شقيقه الأصغر الذي إقتادوه إلى ساحة المسجد وقاموا بذبحه هناك، ليغادر أهل القرية بيوتهم وإنتشروا في البليدة والمدية

مقبرة الطلبة الشهداء ال23 في قرية إيسبغان في الأطلس البليدي أقيمت على أنقاض المسجد القديم وأسفل المقبرة المسجد الذي بني بنفس هندسة المسجد القديم. هو مغلق حاليا

 

“تسورثاثين” أو العيساوية ولالا فاطمة نسومر

نحن هنا في كونفدرالية أخرى، هي كونفدرالية بني خليفة التابعة إداريا لدائرة تابلاط. وبلدية العيساوية كانت تسمى “تسورثاثين” التي تعني التين. وسميت بعد الاستقلال العيساوية نسبة إلى عيسى العزوري، قائد كتيبة من المجاهدين سقطت في فخ الجيش الاستعماري في إحدى المعارك التي شهدتها المنطقة

العيساوية أو تسورثاثين، تضم 13 قرية، بعضها إختفى نهائيا، مثل قرية سدراتة التي رحل سكانها هروبا من الجماعات الارهابية. مقر بلدية العيساوية اليوم يظهر لزائريه كبلدة حديثة النشأة، تعود للعشريتين الأخيرتين، والسبب أن مقر البلدية الأصلي الواقع في قرية زاوية تعرض للحرق وإتلاف أرشيفه من طرف الجماعات الارهابية. فتم نقله في البداية إلى مدينة تابلاط لمدة أربع سنوات. ليتم إنجاز مقرا جديدا للبلدية أسفر قرية زاوية، به مقر للمجلس الشعبي البلدي ومقام لشهداء المنطقة الذين يصل عددهم إلى 300 شهيد وحي سكني ومجموعة من المقرات الادارية والمؤسسات التعليمية

اللغة الأمازيغية إختفت عند سكان “تسورثاثين” وما بقي منها “أتت عليه سنوات الارهاب” يقول أهل المنطقة الذين إحتفظوا مع ذلك بأسمائهم الأمازيغية مثلما تظهر أسماء الشهداء المرسومة في الساحة الرئيسية للبلدة. ويكون عامل اللغة كذلك هو الذي جعل جنرالات الاحتلال الفرنسي يختارون قرية زاوية بالأطلس البليدي لتقيم فيها جبريا فاطمة نسومر وعائلته. ويمكن لزائر المنطقة أن يقف عند قبر لالا فاطمة نسومر الأصلي الموجود عند مدخل قرية زاوية، قبل نقل رفاتها إلى مقبرة العالية. كما يمكن زيارة متحف فاطمة نسومر في مقر إقامة بطلة المقاومة الجزائرية في مقر إقامتها الجبرية، حيث توجد تماثيل ترسم يوميات عائلة فاطمة نسومر إلى غاية وفاتها وهي في سن الشباب

قبر لالا فاطمة نسومر بالأطلس البليدي

مصطفى بودياف هو مضيفنا في هذه المنطقة. هو بدوره مهندس التكوين، متقاعد ويخصص جزء كبير من وقته للتعريف بتاريخ الأطلس البلدي و”توسرثاثنين” بشكل خاص في وسائل التواصل الاجتماعي. مصطفى بودياف مقيم بالعاصمة، لكنه إبن قرية بني بوبكر البعيدة بكيلومترات قليلة عن مقر بلدية العيساوية. رافقناه إلى مقر سكناه هناك، وهي بيت متواضع شيده في القرية الجديدة في طور النشأة، حيث يقيم أغلب سكان بني بوبكر الذي عادوا بعدما إختفى الارهاب دون أن تسمح لهم سكانتهم القديمة بالاستقرار في ظروف لائقة

ميزة قرى الأطلس البليدي أنها ليست تجمعات سكنية كقرى منطقة القبائل، بل القرية، أو الدشرة كما يفضل مصطفى بودياف تسميتها، هي عبارة عن ربوة في غالب الأحيان، تنتشر فيها حقول ومراعي واسعة ملك لعائلات كل واحدة تختار الاقامة بعيدا عن العائلات الأخرى، وهناك أحياء جديدة تجتمع فيها عدد من القرى القديمة بينما إختفت أخرى تماما. ومن مظاهر الهوية المحلية التي يسعى سكان “تسورثاثين” لإعادة إحيائها، تلك المدارس القرآنية التقليدية التي تركت مكانها للمساجد العصرية ذات المنارات العالية. ويسعى سكان قرية بني بوبكر مثلا لاعادة بناء المسجد القديم الذي كان يؤدي دور المدرسة القرآنية إلى أن هدمه الارهاب، لكن مساعيهم لم تجد الاستجابة لحد الساعة

قرية بني بوبكر بالأطلس البليدي

وأي زائر للمداشر المنتشرة هنا في بلدية “تسورثاثين” أو العيساوية هي منطقة فلاحية بإمتياز. فلا أثر لمصنع هنا ولا أي مرفق عمومي هام من شأنه أن يوفر مناضب شغل بإستثناء المؤسسات التعليمية ومركز الصحة الجوارية وبعض المرافق البسيطة كمركز البريد والحالة المدنية… إضافة إلى أعمدة المتعاملين الثلاثة للاتصالات. فالمنطقة تقع في أعلى قمم الأطلس البليدي، لكن تلك الأعمدة لا يستفيد منها أهل العيساوية لتوفر لهم حتى التدفق الكافي للأنترنيت لقضاء حاجياتهم الادارية

ويقدر مصطفى بودياف الذين يقتاتون من عملهم في حقولهم الخاصة أو في المستثمرات الفلاحية القريبة من مقر سكناهم بحوالي ثلثين، بينما الثلث الآخر يشتغل في الوظيف العمومي أو خارج البلدية. ولا يعني هذا أن أهل “تسورثاثين” أو العيساوية ميسوري الحال، بل مداشر قليلة تملك المساحات الكافية للاستثمار الفلاحي، كحال قرية تيجاي. فيما يضطر سكان مداشر أخرى للعمل عند جيرانهم، كحال سكان بني بوبكر، أي أبناء قريته، الذين يقول عنهم “يكسبون قوت يومهم بصعوبة كبيرة

 

اقرأ المزيد