أمن الطاقة في أوروبا

أمن الطاقة في أوروبا - الجزائر

بصرف النظر عما ستؤول إليه الأزمة الراهنة بين الغرب وروسيا بشأن أوكرانيا، فأمن الطاقة في أوروبا يبقى الهم الأكبر في هذه القارة. وهو هم متواصل رغم كل المحاولات التي تبذلها الحكومات لتقليل المخاطر من جهة الإمدادات، في أوقات الاستقرار أو في زمن الأزمات. فضلا عن أن أوروبا تخوض منذ أعوام معارك متعددة من أجل الإبقاء على أسعار الطاقة، خصوصا الغاز المسال الطبيعي في الحدود المقبولة، في حين تعاني هذه القارة، كبقية مناطق العالم، ارتفاعا تاريخيا لمعدلات التضخم التي لم تستطع السيطرة عليها؛ ما أضاف أعباء أخرى على كاهل المواطن في هذا البلد أو ذاك، إضافة طبعا إلى ارتفاع ضغط هذه الأعباء على الموازنات العامة التي تعاني الآثار المرعبة التي تركتها جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي ككل.
السؤال الذي يسيطر على الساحة يظل كما هو منذ أعوام عديدة. هل يمكن لأوروبا الوصول إلى أفضل مستوى من أمن الطاقة؟ هذا السؤال ارتفعت حدته في أعقاب المواجهة الغربية – الروسية الراهنة. فروسيا ترفد القارة الأوروبية بأكثر من 40 في المائة من الغاز الطبيعي، وهي تعد هذا الغاز أقل تكلفة من ذاك الآتي من مصادر أخرى، بحكم زمن شحنه ومسافات نقله. وحالة الغاز الروسي لأوروبا لم تكن مستقرة تماما على مدى العقود الأخيرة. فكل خلاف سياسي بين الجانبين كان الغاز في مركز التجاذبات، وهذا ما دفع بلدا كألمانيا “على سبيل المثال”، أن تتخذ مواقف أقل تشنجا حيال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ بشأن أوكرانيا، ما رفع غضب الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ الساعي إلى رص صفوف حلفائه لمواجهة هذه المرة “الدب” الروسي وليس السوفياتي.
ألمانيا أكثر الدول الأوروبية احتياجا للغاز الروسي. وأكبر اقتصاد أوروبي لا يمكنه أن يكون رهينة لتوترات تخفض من إمدادات الغاز، فضلا عن ارتفاع أسعاره. لكن بصرف النظر عن أي مبررات لبرلين، لا يمكنها بأي حال من الأحوال إلا أن تكون ضمن القوة الهائلة لمواجهة استراتيجية بوتين السياسية في أوروبا والعالم. فألمانيا جزء أصيل من حلف شمال الأطلسي “الناتو” المكلف عمليا بهذه المواجهة وغيرها من المواجهات التي تستهدف الغرب عموما. والمسألة لا تتعلق بإمدادات الغاز لألمانيا فقط، بل تشمل أغلب الدول الأوروبية التي يشكل لها الغاز الروسي شريان الطاقة المثالي، إذا ما كانت الأمور تجري بصورة طبيعية. ففي زمن الهدوء السياسي بين موسكو وعواصم الدول الغربية، ظلت إمدادات الغاز تنساب بكل مرونة من الجانب الروسي إلى أوروبا. صحيح أنها لم تصنع أمنا للطاقة في القارة العجوز، لكنها أمنت المشهد العام من هذه الزاوية.
الفرد الأوروبي العادي يتساءل دائما عن كيفية حل هذه الأزمة التي باتت تاريخية. بمعنى هل هناك بديل آمن ومضمون للغاز الروسي؟ وعليه، هل باستطاعة أوروبا تأمين الطاقة على المدى البعيد؟ الجواب المختصر يبقى دائما، هو أنه لا يوجد حاليا بديل طبيعي مستدام للغاز الروسي، لأسباب عديدة، في مقدمتها الإمدادات الجزائرية من الغاز تبقى أقل قدرة من الإمدادات الروسية، إلى جانب ذلك هناك مشكلات سياسية تاريخية معروفة أيضا بين المغرب وإسبانيا، جعلت الأنبوب المار من الأراضي المغربية إلى القارة الأوروبية متوقفا. لكن في النهاية الأمر لا يرتبط بالأنابيب والمسافة التي تقطعها للوصول إلى المصب فقط، بل بقدرات المصدر أيضا، وهي ضعيفة في القارة الإفريقية، رغم أن الجزائر هي المورد الثالث لأوروبا بعد روسيا والنرويج.
من جهة واقعية، لا يمكن حل أو ضمان أمن الطاقة في أوروبا، إلا عبر اللجوء إلى إمدادات من دول حوض المتوسط، وهذه تحتاج إلى وقت لن يكون قصيرا كي تصل إلى مرحلة التصدير، عبر الخطوط البحرية والبرية. فقد أثبتت الإمدادات الأمريكية الأخيرة من الغاز لأوروبا، أنها شكلية أكثر منها استراتيجية. فإرسال ناقلتي غاز إلى القارة الأوروبية لا يشكل شيئا، حتى لو تم إرسال عشرات أخرى منها. ما يحتاج إليه الأوروبيون استقرارا في موارد الطاقة، خصوصا الغاز. فبعض الدول في هذه القارة تستخدم الغاز لتوليد الكهرباء، ولا سيما تلك التي استبعدت القوة النووية في عمليات التوليد هذه. أي إن المسألة لا تتعلق فقط بالتدفئة من برد أوروبا. ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن أي حل لمشكلة الطاقة الأوروبية لا بد أن يكون مناسبا ماليا أيضا، مع ارتفاع الأسعار بصورة مطردة، خصوصا مع زيادة الطلب في أعقاب الانكماش الاقتصادي العالمي الناجم عن كورونا.
المشكلة الأكبر أيضا هي تلك التي تكمن في تراجع حجم الاحتياطيات الأوروبية من الغاز. ففي الأسابيع القليلة الماضية وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ أعوام. ومع الموجات الشديدة من البرودة التي ضربت القارة ولا تزال، ارتفعت حالة الرعب في أوساط الحكومات الأوروبية كلها. فالتهديدات الروسية بقطع خط الغاز بسبب أوكرانيا وأزمتها، عززت حقيقة أن أمن الطاقة الأوروبية لا يزال بعيدا، ولا يمكن للمسكنات الأمريكية أن تحل مشكلة تعود لعقود، لا لأزمة واحدة.

author: 

محمد كركوتي

Eng name: 
mohammed_karagoti
Image: 
Image: 

اقرأ المزيد