في حوار خص به الخبر يري مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، د. سلام كواكبي أن ” توطين صناعات إستراتيجية في الصين أبقى الدول الغربية في وضع حرج”.
يرى بعض المحللين أن العالم بعد أزمة ”كورونا” لن يكون كما كان قبله، من منظورك ما هي ملامح الواقع الدولي الذي قد تفرضه الجائحة؟
رغم انتمائي لهذا التيار إلا أنني أعتبره ”تحليلا رغبويا” إذا انتظرنا التغيير الإيجابي، بالمقابل أراه خيبة كبرى إن توقعنا السلبي المتمثّل في جمود التغييرات المحتملة أو حتى تشدد وتفاقم الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الحال، كثيرون وأنا منهم، يتمنون أن تعدل الدول عن تبني الرأسمالية المتوحشة، وأن تتعزّز العدالة الاجتماعية بما تحتويه من دور الدولة في السياسات الصحية كما في الرعاية الاجتماعية، وأن يجري التعامل مستقبلا بطريقة أقل تخريبية مع البيئة وتزداد شفافية السياسات العامة، فلا يكون هناك ملفات غامضة تُشجع في ظل تطور وسائل التواصل على تعزيز ونشر عقلية المؤامرات والخزعبلات، ودون تعزيز التعاون الدولي القائم على أسس متوازنة ورغبات متبادلة بانتهاج الطريق الأفضل لمستقبل الإنسانية، لا يمكن التعويل على غدٍ مشرق، وإن أدت هذه الأزمة الرهيبة إلى تقوقعات محلية وإقليمية أكثر في المستقبل، فمعنى هذا أن البشرية لا تتعلم من تجاربها وتسعى إلى فنائها بإرادتها، أو بالأحرى بإرادة من يقود مصيرها من ديكتاتوريات أو مصالح اقتصادية.
استندت دول رأسمالية كبرى إلى قيم اشتراكية في خططها لمواجهة فيروس كورونا، هل سيؤدي ذلك إلى إعادة النظر في الأنظمة الأنجع للدول؟
كما ذكرت سابقا، من المحبّذ أن تتنبه كل الحكومات إلى ضرورة إعادة مكانة دور الدولة في حماية سكانها وتأمين ظروف إنسانية في حدودها الدنيا، وبعيداً عن الاعتراف بضرورة استعمال المفاهيم التي طورتها النظرية الاشتراكية، فالتوجه نحوها مع جعلها تتوافق مع طبيعة الحرية الاقتصادية التي قام عليها الغرب وتعززت بقوة بعد انهيار المعسكر الشيوعي، ستكون علامة فارقة، ومن المنتظر أن تطالب المجموعات المدنية وأحزاب البيئة واليسار، بكشف حساب تفصيلي في إطار العمل الديمقراطي من أجل تبيين أسباب الفشل الذي بدا في إدارة الأزمة والتخبّط الواضح في التصدي لها.
بالحديث عن فشل الدول وحتى القوى الاقتصادية الكبرى في مجابهة كورونا، هل ترى أن ذلك سيؤدي إلى مراجعة مفهوم الأمن القومي للدول؟
أزمة كورونا كشفت الارتباط العالمي الهائل بالإنتاج الصيني، حيث تم من خلال تبني السياسة الرأسمالية المنفلتة من أية قيود، إعادة توطين صناعات أساسية واستراتيجية في الصين، مما أبقى الدول الغربية في وضع حرج متعلق بالقدرة على توفير ما يلزم عموماً، وفي أوضاع كارثية واستثنائية خصوصاً، وما أزمة الأقنعة الطبية وأجهزة التنفس التي تنتجها الصين بكثافة ويكاد الغربيون ينسون كيفية إنتاجها، إلا مؤشر ومثال أبرزه انفجار هذا الملف في وجه المسؤولين الغربيين. وفي أوروبا بدأ الحديث منذ اليوم الأول حول الخطأ الفادح في الاعتماد على توطين الصناعات الاستراتيجية كالدواء بعيداً عن القارة، وقد بدأ الفرنسيون رسميا وشعبيا في الدعوة إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن القومي بصيغ تشمل عدة جوانب.
في ظل ما اعتبرته ”ارتباطا عالميا بالإنتاج الصيني”، هل ترى أن الواقع الدولي بعد الجائحة سيطوي صفحة تفرد أمريكا بقيادة العالم لينقلها شرقا؟
الصين في موقف صعب جدا، وبعيدا عن أية محاولة أمريكية ”ترامبية” لاتهامها بالمسؤولية وللتشكيك في أن الفيروس نجم عن تجارب مخبرية وعن خطأ إنساني، إلا أن التعتيم والغموض اللذين اتبعتهما الصين في بداية الوباء، قد ساهما بشدة في انتشاره عالميا وفي تأخر الدول الأخرى عن اتخاذ الإجراءات الوقائية في حدودها الدنيا، لذلك وعلى الرغم من تعويل البعض على المشرع الصيني بإنجاز طريق حرير عصري وعلى مجموعة أوراسيا التي يمكن لها نظريا أن تواجه القطب الأمريكي الذي يعتقد بأنه الأقوى، إلا أن سياسات الصين كما روسيا، اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً لا تطمئن الدول الأخرى إلى أي مبادرة لإطلاق مشروع يعزز من دور الشرق على حساب الغرب، أما القيادة الأمريكية للعالم فتكاد تتموقع في إطار نظري أكثر من عملي وفعلي، خصوصا في العقد الأخير وقد أصدر العالمان الفرنسيان برتران بادي ودومينيك فيدال كتاباهما في هذا الصدد تحت عنوان: ”نهاية الهيمنة الأمريكية”، ما يُتيح للصين التوسع والسيطرة على مجالات بعيدة كل البعد عنها جغرافياً، كما الحال في إفريقيا، فمن يتحمل المسؤولية أولاً هي الدول المعنية نفسها بهذا التوسع والهيمنة، إضافة إلى الغرب ”الحر” الذي ما زال يتعامل مع دول الجنوب على أنها مستعمرات سابقة له أو أماكن هيمنة وسيطرة حقيقية.
وكيف يمكن ربط طموحات الولايات المتحدة والصين في التوسع عالميا مع الحرب الكلامية المتصاعدة بينهما؟
أمريكا ”ترامب” فتحت جبهات صراع عديدة بعيدا عن المواجهة العسكرية، وصراعها مع الصين اقتصادي بالدرجة الأولى رغبة في الهيمنة والتوسع، وبيجين تساهم أيضا، إلى جانب التعنت الأمريكي في ظل الإدارة الحالية، في تفاقم التوتر وانعكاسه على دول العالم، وفي ظل رغبة واضحة لتبرير التأخير الكبير في التصدي للوباء من قبل البيت الأبيض الأمريكي، أصبح رمي المسؤولية على الآخر المزعج ”الصين” فرصة ألماسية، ولا تساعد الأخيرة من خلال طبيعتها التسلطية وتوجهاتها الاقتصادية التوسعية، على تفادي هذه المواجهة، وأتوقع أن تتوقف الأمور عند هذا الحد، لا بل وقد تجري تحسنات متوافق عليها بين البلدين وتنازلات متبادلة في حال فوز الديمقراطيين في انتخابات نوفمبر القادم الرئاسية، أما إن عاد دونالد ترامب إلى الحكم، فمن المؤكد أن ”البازار” سيكون حامياً وستتعامل الإدارة الأمريكية مع الملف انطلاقا من عقلية جامدة تُحركها المصالح المباشرة والصارخة، وفي حال تجاوب الصين، فلا شيء يمنع الأمريكيين من التعاون والتصالح وإهمال كل الإشارات إلى حقوق الإنسان والانتهاكات المستمرة للحريات العامة والفردية في الصين.
وعلى الصعيد الأوروبي، هل يمكن القول إن التفكير الأحادي للدول الذي أظهره وباء كورونا عزز مكانة الدولة الوطنية؟
لقد بولغ كثيرا في الحديث عن ضعف التضامن في القارة الأوروبية، وساهمت وسائل إعلام مرتبطة بالكرملين والقيادة الروسية في تعزيز هذا الشعور، كان هناك تخبط وتردد لكنه سرعان ما تم تجاوزهما من خلال الدور الهام الذي لعبته المؤسسات المالية الأوروبية لإنقاذ اقتصاديات الاتحاد ويجدر التنويه إلى أن الملف الصحي لا يدار من قبل بروكسل، وذلك بناء على رغبة الأعضاء لاعتباره سياديا، وهذا ما أفقد أوروبا التعامل مع الوباء إدارياً وبسرعة، هناك خطر محدق يستعين به اليمين المتطرف الأوروبي المطالب بالانسحاب من الاتحاد والانكفاء داخليا، ونرى تباشير ذلك في إيطاليا مثلاً بانتقاد المشروع الأوروبي الديمقراطي والعودة إلى تعزيز الدولة الوطنية من خلال رفع الجدران ومحاربة الهجرة والتقوقع في الوطن بمفهوم الشوفيني الضيق، وبهذه المناسبة من الضروري أن نعرف بأن دور العلماء الصحيين من أصول أجنبية كان أساسياً في كل الجبهات الأوروبية، وبالتالي فهو درس إنساني هام لمستقبل أوروبي ديمقراطي منفتح على الهجرة وبعيد عن التمييز والإقصاء.
الجزائر تضع أمريكا في حرج ومحاسبة أمام التاريخ