لبروفيسور حكيم جاب الله اسم بارز عالميا في حقل علوم الأوبئة والميكروبيولوجيا، وقد أهَّلته أبحاثه ليشغل منصب مدير معهد باستور الرفيع في كوريا الجنوبية خلال فترة صعبة واجه فيها هذا البلد تبعات وباء “سارس”. وبحكم العارف بخطورة الأزمة الصحية الحالية، يتحدث جاب الله في هذا الحوار مع “الخبر” بقلب الجزائري الحريص على بلده عن ضرورة اتخاذ أقصى تدابير الحيطة في مواجهتها، ويقترح تعميم لبس الكمامات في فترة رفع الحجر الصحي تفاديا لظهور موجة ثانية من الوباء.
بعد 5 أشهر من ظهوره، ما الذي أصبح العلم يعرفه عن فيروس كورونا؟
هذا الفيروس علميا هو من عائلة الفيروسات التي نصطلح على تسميتها “بيتا كورونا”. وهذه المرة الثالثة التي ينتقل فيها من حيوان إلى إنسان. المرة الأولى كانت في سنة 2002 بأقصى شرق آسيا وأُطلق عليه “سارس”. والمرة الثانية كانت سنة 2012 بالسعودية وسمّي “مارس”. والمرة الثالثة هي ما نعيشه اليوم مع فيروس “سارس كوفيد2” الذي انطلق من الصين. الفارق بين الثلاثة أن النوع الأخير أصبح أشدّ قوة وفتكا خاصة لمّا انتقل من بلد لآخر.
متى تتوقعون نهاية هذا الوباء عالميا؟
زوال هذا الفيروس مرتبط بمدى احترام شعوب العالم للحجر الصحي. وفي هذه الحالة سيتوقف هذا الفيروس عن الانتشار لأن البيئة الحاضنة له هي جسم الإنسان. إذا اتُّبعت هذه الطريقة فيمكن للفيروس أن يموت أو يعود إلى صيغته الأولى أي الانتقال بين الحيوانات.
البروفيسور الفرنسي ديديي راوول تحدّث عن نهاية دورة هذا الفيروس مع نهاية الربيع.. هل توافقه في ذلك؟
لا أظن ذلك. الفيروس والحرارة لا توجد علاقة بينهما. حاليا هناك دول في النصف الجنوبي للكرة الأرضية درجات الحرارة فيها مرتفعة، ومع ذلك الفيروس ينتشر ويوقع ضحايا.
ما قيمة بعض نظريات المؤامرة التي تتحدث عن تصنيع الفيروس مخبريا؟
في كل مرّة يظهر فيها فيروس يخرج علينا أصحاب الخيال الواسع ليرسموا سيناريوهات لا تمت للعلم بصلة. أؤكد لك اليوم أنه لا يوجد عالِم على الأرض يمكن أن يخلق فيروسا في المخبر. كل ما بإمكاننا فعله إجراء تعديل جيني على الفيروس من أجل إضعاف قوته وتحويله للقاح ضد الأمراض الفيروسية.
اختلفت استراتيجيات الدول في التعامل مع وباء كورونا، بين من اعتمد أسلوب مناعة القطيع مثل السويد وهولندا وإنجلترا قبل أن تتراجع، وبين من اعتمد الحجر الجزئي والكلي. ما هي الاستراتيجية الأنسب للتعامل مع الفيروس في رأيك؟
كل دولة لديها استراتيجية وتتعامل حسب إمكانياتها. لكن ما أريد أن أقوله أن ما يسمى “مناعة القطيع” هي عملية انتحار جماعي لأنها تعرض حياة ملايين البشر للهلاك. لذلك الطريقة الأنسب في اعتقادي هي اعتماد الحجر الصحي وتقييد حركة المواطنين إلى الحد الأقصى حتى يتوقف الفيروس عن الانتشار.
كيف تقيم استراتيجة الحكومة الجزائرية في التعامل مع الوباء؟
الجزائر أدركت الخطر بعد اكتشاف أول حالة لإيطالي الجنسية بالبلاد، ثم تم إغلاق الحدود بعد ذلك، وهذا إجراء جيد لأنه جنب الجزائر التعرض لخطر الفيروس القادم من دول جنوب المتوسط، خاصة إيطاليا التي تحولت بعد الصين إلى مركز عالمي للوباء، علما أن هناك حركة كثيفة بين الجزائر وهذه الدول، سواء فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا.
لكن ألا ترى أن إغلاق الحدود تأخر قليلا بالنظر إلى أن أغلب الحالات المسجلة في بداية الوباء بالجزائر كانت مستوردة؟
كان من الطبيعي إيجاد التوازن اللازم، لأن من دخلوا الجزائر من الخارج هم جزائريون أيضا، ومن حقهم زيارة بلدهم أو العودة إليه بالنسبة لغير المقيمين. لكن عموما قرار غلق الحدود كان جيدا في الحد من انتشار العدوى.
كيف يمكن تفسير نسبة الوفيات العالية في الجزائر التي تفوق 10% من الحالات المكتشفة؟
هذه النسبة لا معنى لها. لا يمكن تصور أن يموت 10% من المصابين وإلا لكانت الكارثة. الإشكال في رأيي هو في ضُعف عدد الحالات المكتَشفة بسبب غياب إمكانيات الكشف والتحليل، وهذا ما يجعل عدد المصابين حقيقة أكبر بكثير من الأرقام المعلن عنها. وهذا ليس حكرا على الجزائر، فكل الدول تعطي تقديرات فقط لعدد المصابين لا تعبر عن حجم الإصابة الحقيقي. لذلك يبقى المقياس الأدق هو حجم الضغط في المستشفيات الذي يعطي صورة أوضح عن انتشار المرض.
مدير معهد باستور قال في حوار مع جريدة “الوطن” إن الجزائر أجرت 6500 كشف، وذكر بأن 23% فقط من الذين خضعوا للتحاليل كانت نتائجهم إيجابية، واستنتج من ذلك أن حجم انتشار الوباء في الجزائر ليس كبيرا. هل لديك تعليق على ما قاله؟
هذا كلام فارغ من الناحية العلمية مع احترامي للشخص. إجراء 6500 كشف في بلد به 40 مليون نسمة إهانة كبيرة للجزائر ولمعهد باستور. إذا كانت البليدة وحدها التي تعد مركز الوباء بها مليون نسمة فكيف يمكن الاكتفاء بهذا العدد الضئيل جدا من التحاليل وإعطاء استنتاجات بناء على ذلك؟ أعتقد أن هذا الكلام ينبغي أن يُحاسَب عليه صاحبه، ولو كنت مكانه لفضّلت الاستقالة على أن أدلي بهذا التصريح.
لكن معهد باستور ليس مسؤولا عن توفر اختبارات الكشف، وهو يعمل حسب ما تتيحه له الحكومة من إمكانيات. أليس كذلك؟
هناك مسؤولية تقع على معهد باستور لأنه لم يحضر نفسه للتعامل مع الوباء رغم أنه كان يتابع ما يجري في الصين. كان يجب إعداد خطة للتعامل مع الفيروس وطلب توفير كل الإمكانيات من الحكومة حتى تكون الجزائر مستعدة.
ما هو معدل الاختبارات اللازم في رأيك للتعامل مع حالة الوباء في الجزائر؟
أظن أن التحدي الأكبر اليوم هو في البليدة ويجب التعامل معه سريعا. في اعتقادي الاختبارات يجب أن تشمل ما بين 10 إلى 20% من سكان البليدة. وتشمل 5% من سكان الولايات التي تقع على محور 5 كيلومترات من البليدة. ثم يتم اختبار على الأقل 1% من سكان باقي الولايات. بهذه الطريقة يمكن التحكم بشكل أكبر في انتشار الوباء، من خلال عزل المرضى ومنعهم من نقل الفيروس وتوسيع رقعة انتشاره.
تعتمد الجزائر عبر معهد باستور تقنية PCR في الكشف عن الحالات المصابة. هل يمكن التخلي عن هذه التقنية لصالح طرق أخرى أسرع؟
هذه التقنية معروفة منذ زمن وسهلة الاستعمال. صحيح أنها ليس مثالية ففيها نسبة من الخطأ، لكنها تبقى الأحسن حاليا. هناك شركات حاليا تدّعي أن لديها اختبارات سريعة، لكن ينبغي التنبه إلى أن هذا السوق مليئة بالمخادعين، وهذه الاختبارات في معظمها ليس لها معنى. هناك حتى من يروج لاختبارات كشف الحمل على أنها تكشف الفيروس وهذا من الدجل. لذلك من الأفضل الإبقاء على تقنية “بي سي آر”.
لكن لاحظنا في كوريا الجنوبية مثلا أن ثمة تقنيات سريعة في الكشف؟
كما تعلمون، كنت مدير معهد باستور بكوريا الجنوبية، وأعرف هذا البلد جيدا. هم يستعملون تقنية “بي سي آر” في الكشف. هناك من لا يفرق بين التقنيات الخاصة بالكشف عن الإصابة بالفيروس، وتقنيات أخرى تدخل في باب ما يعرف بعلم الأمصال أو السيرولوجيا، وتأتي في مرحلة ما بعد الإصابة للكشف عما إذا كان الجسم قد اكتسب مناعة ضد الفيروس. هذا الكشف يعتمد على تحليل بلازما الدم وملاحظة ما إذا كان الجسم قد أنتج أجساما مضادة ضد الفيروس. وفي حال إيجاد هذه الأجسام يكون الشخص الذي خضع للتحليل قد أصيب بالفيروس وشُفي منه دون أن يدري ربما، لأن هناك الكثير ممن يحملون الفيروس دون أن تظهر عليهم أعراض المرض. بعض الدول ستعتمد على هذا الكشف في مرحلة رفع الحجر الصحي حتى يتم تمييز من اكتسبوا مناعة من البقية.
في نفس هذه الفكرة. هل الشفاء من المرض الذي سببه الفيروس يعني اكتساب مناعة تقي من الإصابة مرة أخرى؟
وفق ما تمت ملاحظته في كوريا الجنوبية مثلا، فإن 60 إلى 70% من المصابين بالفيروس أنتجت أجسامهم أجساما مضادة، وهي عبارة عن أسلحة يطورها الجهاز المناعي للجسم للقضاء على الفيروس وتبقى موجودة في الدم لمحاربته كلما دخل. أما النسبة الباقية فلم ينتج جسمهم أجساما مضادة، لكنه طوّر آلية دفاعية أخرى لمحاربة الفيروس وانتهى الأمر بالشفاء أيضا. بالنسبة لمن لم ينتج جسمهم أجساما مضادة قد تكون فرضية إصابتهم من جديد بالمرض واردة.
هل يجب التخطيط لرفع الحجر الصحي من الآن؟ وما الذي يجب فعله لتفادي موجة ثانية؟
في الجزائر توجد لجنة علمية تضم خبراء في هذا المجال، وهي في اعتقادي الأقدر على تحديد الخطة الأنسب باعتبارها تمتلك معطيات الميدان. ما أريد قوله من باب النصيحة أنه من المستحسن تعميم قرار ارتداء الأقنعة الواقية عند الخروج لكل المواطنين تفاديا لعودة الفيروس بعد رفع الحظر الصحي. ليس شرطا ارتداء الأقنعة الطبية التي يجب إبقاؤها في متناول الطواقم الطبية، ويمكن تصنيع أقنعة يدويا من القماش من أجل الحماية، وهذا المعمول به حاليا في نيويورك مثلا.
من الناحية العلمية، هل يعتبر بروتوكول هيدروكسي كلوروكين الذي اعتمدته الجزائر ناجعا لعلاج مرضى كورونا في ظل النقاش المحتدم حوله بين الأطباء خاصة في فرنسا؟
دواء هيدروكسي كلوروكين يعمل على مساعدة النظام المناعي في تقليص الالتهابات التي تتعرض لها الرئة بعد مهاجمتها من الفيروس. هذا الدواء ليس سحريا، وهو يستعمل للوقاية أكثر منه للعلاج، لأن الحالة إذا دخلت المرحلة الثالثة من المرض فلا يمكن أن يقدم لها الدواء شيئا. أما الضجة التي حدثت حوله ففي اعتقادي كان طابعها سياسيا أكثر منه علميا، حيث تم تضخيم آثار الدواء الجانبية على القلب رغم أنه معمول به منذ 70 سنة في علاج أمراض من بينها الملاريا. ربما هناك الكثير من المصالح المتداخلة التي قد تنزعج من تسويق دواء ثمنه في المتناول، ما يضيع سوقا ضخمة على شركات الدواء الكبرى.
لكن هناك انتقادات كثيرة للطريقة التي اعتمدها البروفيسور راوول في اختبار الدواء على المرضى، والتي افتقدت للمنهجية العلمية الصارمة..
لا أظن أن المنهجية العلمية هي السبب. أنا مثلا أشتغل منذ فترة طويلة في حقل معالجة السرطان. أؤكد لك أن الكثير من الأدوية المستعملة لها آثار جانبية خطيرة، ومع ذلك تجد الإشادة بها رغم أنها لا تضيف في نسبة حياة المرضى سوى أسبوع أو شهر على الأكثر. الغريب أنه يتم تسويق هذه الأدوية على أنها معجزة، ويمر ذلك مرور الكرام رغم أن الظرف عادي ويسمح بالمناقشة. لذلك لا أفهم اليوم سبب إثارة كل هذا النقاش على بروتوكول البروفيسور راوول، ونحن في أجواء حرب ضد الفيروس. كما لا أفهم أيضا التركيز على دوائه بينما هناك أدوية أخرى مثل التي تعالج السيدا يتم تجريبها على المرضى.
حاليا هل هناك علاج تعملون عليه للقضاء نهائيا على الفيروس؟ ومتى يمكن أن يكون فعالا؟
هناك تجارب مختبرية يتم إجراؤها حاليا على أدوية يمكن أن يكون لها تأثير على جهاز المناعة للتصدي للفيروس. أما مسألة إنتاج لقاح فأنا أستطيع التأكيد بأن الأمر يتطلب سنوات طويلة من العمل. وما يثار عن إمكانية إيجاد لقاح في ظرف 18 شهرا هو ضرب من الوهم في اعتقادي. إنتاج اللقاح عملية معقدة، ومن بين 100 مختبر يعمل على ذلك ستكون نسبة التوصل لنتيجة عند مختبر واحد فقط. وحتى في حال إنتاج اللقاح لن يكون ذلك فعالا لجميع البشر. أقول هذا الكلام من وحي خبرتي في التعامل مع الفيروسات الشبيهة في السنوات الأخيرة، فلحدّ الآن لا يوجد لقاح لفيروس “سارس” ولا “مارس”، وهما النوعان الآخران من كورونا اللذان تحدثت عنهما في بداية الحوار، رغم مرور 18 سنة على ظهور الأول و6 سنوات على الثاني.
في كل مرّة يظهر هذا النوع من الأمراض إلا ويخرج أشخاص يدّعون امتلاك دواء عبر تركيبات عشبية أو طبيعية كما يقولون. ما رأيك في هذه الظاهرة؟
يوجد في العالم كله انتهازيون يستغلون هذه الفرص ويحاولون التلاعب بعقول البسطاء من أجل تحقيق أهدافهم. هذا لا يتوقف على الجزائر التي ظهر فيها شخص يدّعي امتلاك العلاج، بل في دول كثيرة. وصلتني قصص عجيبة عن بعض هؤلاء، ففي الهند مثلا هناك زعيم طائفة ادّعى أنه يستطيع علاج كورونا بطريقة لا أستطيع هنا ذكرها وهناك من صدّقه. المشكلة ليست في هؤلاء بقدر ما هي في الإعلام الذي يهتم لما يقولونه ويستضيفهم رغم أنهم دجالون يشوشون على الناس.
بروفيسور، أنت من بين القامات العلمية الكبيرة في علم الفيروسات بالخارج. كيف يمكنك مساعدة بلدك الجزائر؟
أنا موجود ومستعد لمساعدة بلدي في أي جانب، وفي حال طلبت الحكومة أي استشارة فلن أتردد أبدا لأني أعتبر ذلك واجبا.
النهار تنقل تفاصيل اليوم الأول بمتنزه “الصابلات” بعد رفع الحجر الصحي